الإعلامي الزبير نايل يكتب:- عندما يكون الحلم كابوسا .. اللهم أجعله خيرا…

الإعلامي الزبير نايل يكتب:-
عندما يكون الحلم كابوسا ..
اللهم أجعله خيرا …
رأيتني أهبط مطار الخرطوم بعد غيابٍ طال حتى خُيّل إليّ أنني غادرت حدود الزمان والمكان . الأشياء بدت لي مألوفة لكنها في ذات الوقت غريبة، كأنني أرى نسخة باهتة من معالم كنت أعرفها.
ضابط الجوازات الذي كان يقلب صفحات جوازي بعينٍ ويرفع الأخرى ليستبين ملامحي ،تمتم بكلمات لم أفهمها وتملكني حينها ذهول للحظة : هل تغيرت لغة أهلي أم أن غربتي قد نأت بي عن معانيها ..سلمني الجواز وفتح لي بابا ضيقا للخروج إلى فضاء واسع ….
سائق التاكسي بشعره الشحيح وقميصه القطني المتشرب بالعرق سألني: أتعرف جيدا الطريق إلى وجهتك حتى لا نتوه لأن كثيرا من ملامح المدينة لم تعد كما كانت وليس هناك محطة قريبة للتزود بالوقود.. ضحكت ضحكة نصف دائرية وأجبته نعم ..هذه مدينة أعرف دروبها كما يعرف العاشق ملامح محبوبه.. وكل منعطف فيها يوقظ في ذاكرتي حكاية قديمة أو شوقا دفينا..
سلكنا طريقا متعرجا محفوفا بأعشاب نبتت من غير انتظام، وعادم السيارة ينفث دخانا كثيفا كلما ضغط السائق على دواسة البنزين.. الجو بين غائم ومشمس مع لفحة هواء دافئة تحمل رائحة العشب ..حاولت أدير مؤشر راديو أم درمان فأجابني بصمت ثقيل، وعلى جانبي الطريق منازل صامتة غطى نوافذها الغبار، ومحال موصدة وبعضها دون أبواب، وشوارع خاوية إلا من مارة قليلين كأنهم أشباح .. بدأ قلبي يرتجف، ليس خوفًا، بل رهبةً من وحشة المدينة التي كانت كثيرة الضجيج وشديدة الزحام عندما غادرتها ..
بعد جهد وصلت إلى دارنا، عندما دلفت داخلها كانت الأصوات أصوات أهلي، لكن الوجوه تغيرت وذبلت ملامحها، دققت النظر طويلا وكأنني أنقّب في دفاتر الزمن للعثور على قسمات أهلي.. وجدتهم لكنهم كانوا وجوها مرهقة ومنهكة حتى بهتت خطوطها الأصلية.
تلفتُّ بينهم كالغريب، وقعت عيني على شقيقي عثمان ،كان الشيب قد غزا رأسه رغم صغر سنه.. اقتربت منه بوجل، عانقته، ثم سألته بصوت مرتعش: ماذا حدث يا أبا الزبير؟ لماذا تبدو لي الوجوه وكأنها من كهوف الماضي؟
نظر إليّ بعينين حانيتين وتنهيدة خرجت من أغوار بعيدة وقال: هي الحرب يا ابن أمي لم تترك فينا ما كنا عليه. كانت قاسيةً ومتوحشة، بدّلت ملامح الناس وقتلت فيهم الشغف وأشياء جميلة كنا نصارع بها الحياة، وألقت بهم في متاهتها عندما نهبت المليشيا المسعورة البلاد وحرقت الأرض وقتلت الأمان لكننا صمدنا وسنظل صامدين…
كنت أستمع إليه بينما الدار تضيق من حولي، كأنّ جدرانها تنحني تحت وطأة حديثه ..مددتُ يدي أتحسس الأشياء علّني أتأكد أنني لم أضل طريق الواقع إلى كابوس مرعب، لكن كل شيء كان حقيقيا.. حقيقيا حدّ الوجع.
صوت عثمان بدأ يخفت رويدا رويدا، والمكان أخذ في التلاشي، حتى وجدت نفسي أستيقظ فزعًا ..أتصبب عرقا، أتحسس وجهي وأبحث عنه في المرآة.. لم يكن حلمًا، بل كانت نافذة فتحت لي في ثلث الليل الأخير على وطن كاد يضيع في غيابي.
وحشة العودة من قلب الغياب