د. يوسف محمد علي الناير يكتب:- من تحت دمار الميلشيا المتمردة تنهض إذاعة وفضائية الخرطوم(٧)

د. يوسف محمد علي الناير يكتب:-
من تحت دمار الميلشيا المتمردة تنهض إذاعة وفضائية الخرطوم(٧)
مع إشراق شمس الجمعة ٢٠٢٣/٩/١٥م في مدينة شندي ذهبنا بسيارة الحبيب أحمد الزين حجو إلى السوق لوداع الزميلة حنان هبيلا وبنتها مرام في طريقهما إلى الخرطوم وتأخرت ليوم واحد بحثا عن ابني محمد الذي جاء مع خالته يسرا بابكر علي مريود. معلوماتي عن شندي شحيحة جدا ولكن وجودي ليلة الجمعة بجوار صديقي أحمد الزين حجو وفر لي الكثير من الإضافات المهمة.
قمت بجولة فضولية في السوق فإذا ببصري يصطاد مكان عصير ليمون كارب فأغراني سعره للدبل !! مهلا إنه دبل عصير وليس ذاك الذي ترتجف منه الصدور!! ثم بدأت أجمع معلومات عن مكان محمد فعبر الهاتف وجدت ضالتي وسريعا طلبت ركشة للمشوار ولم أجد صعوبة في الاتفاق مع صاحبها فطبيعة السودانيين متاشبهة رغم تباين الجغرافيا إلا أن طيب المعشر يظل قاسما مشتركا بين بيئات السودان المختلفة. قلت لصاحبي بكم مشوار المنطقة العسكرية؟ لغة زول عارف البلد ،ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، فالإدعاء في هذه الظروف مطلوب للمناورة ،كما أن تداعيات الحرب جعلت مداخل الحديث مع الآخرين سهلة للغاية فاستطلعت رأيه حول إفرازات الحرب والعمل بالرشكة هنا في شندي ، وطبيعة أغلب السودانيين يبدأ مدخله للحديث بالحمد أولا، ثم واصل حديثه هذه أزمة ومشكلة لأهلنا في الخرطوم رغم أنها انعشت اقتصاد مدينتنا لكننا ندعو الله أن ينهي هذه الحرب وترجع الأمور إلى طبيعتها .كان هذا الحوار قبل أن يمتد الحريق إلى الجزيرة، فقلت له كيف كان العمل في السابق ؟فأجاب كنا نرجع البيت منذ الرابعة مساء وقت قفل السوق ،ولكن الآن الوضع اختلف وأصبحت الحركة التجارية عالية وقد تحسن دخلنا بصورة ملحوظة بفضل المولي عزوجل ،وتجار الخرطوم الذين اختاروا شندي، ومع نهاية حواري مع صاحبي وصلت إلى المنطقة العسكرية ثم ناولته ثلاثة ألف جنيه قيمة المشوار . وجدت ابني محمد في منزل جده المساعد عبدالله البقيابي ،ومنزله مثل منازل السودانيين في المدن الآمنة يستقبل ويودع الأسر بروح طيبة وكرم فياض . بت ليلتي تلك وفي صباح السبت ٢٠٢٣/٩/١٦م وبرفقة ابني محمد ذهبنا إلى سوق شندي للسفر ولكني فضلت زيارة عصير الليمون ثانية ولكن هذه المرة بعد أن ضربنا من باقي المرتب سمك بمزاااج ،وقد يظن متابع أنني جئت إلى السمك طواعية بل أوقعتني في فخه دعاية صاحب المكان حيث كان يغري الزبائب بأصناف كثيرة توحي إليك بتميز أسعاره عن الآخرين ، وعندما تأتي للطلب تفاجأ بأن الصنف الذي أدخلك المكان غير موجود ،وعندما سألته عن هذا السلوك الدعائي الكذوب! قال لي لقد تعلق بلساني بطول التكرار فانتزع مني إعجابا ومبلغ طلبين كاملين وأنا راض عنه !! وقبل الفراغ من القزقزة النهائية لأول طلب سمك بعد حرب ١٥ابريل٢٠٢٣م فإذا بهاتف الزميلة المخرجة سمية محمد حمزة يرن وقد اتخذت حوش بانقا سكنا اضطراريا لها ولأسرتها مثلها ومثل كل الأسر السودانية التي رجعت إلى جذورها بعد حريق ١٥ابريل ٢٠٢٣م حيث طلبت مني زيارة الأسرة ولو ليوم واحد قبل السفر الى الخرطوم ،ووسط إلحاحها الشديد ذهبنا إلى حوش بانقا، وبعد ربع ساعة تقريبا وصلنا إلى الحوش وهو معروف لدى السودانيين . نعم حي من أحياء شندي بالاتجاه الجنوبي في الطريق الذي يربط منطقة أبودليق بمدينة شندي وهي حدودية تتبع لولاية الخرطوم وهذا مؤشر يؤكد أن محلية شرق النيل تعتبر أكبر محلية من بين محليات الخرطوم السبع، حيث تشترك حدود هذه المحلية مع أربع ولايات، الجزيرة والقضارف وكسلا ونهر النيل . ووسط كرم وحفاوة أسرة الزميلة المخرجة سمية محمد حمزة خالجت نفسي خواطر متنوعة غير أن اثنتين تصدرتا الموقف : الأولى مرتبطة بطريق أبي دليق ومتعلقة بتهديدات الميلشيا المتمردة اسفيريا لمدنية شندي فانتابني إحساس حزين سرعان ما تبدد ذاك الحزن حينما تذكرت درجة الاستعداد وسط الأجهزة العسكرية والأمنية في تلك المدينة الجميلة .والخاطرة الثانية تولدت من حفاوة ثلاث أسر سودانية لم أشعر بالغربة وسطها مطلقا ، فقلت في نفسي إن شعبا بهذه الصفات والأخلاق الفريدة لن تنكسر إرادته وسيمضي إلى غاياته مهما كانت المؤامرات والتحديات . وقد كانت الزيارة فرصة طيبة للونسة مع عمنا محمد حمزة وابنه خالد الموظف بوزارة المالية ولاية الخرطوم، ولنا علاقة قديمة ومتميزة مع هذه الأسرة تبادلنا خلالها الزيارات في الخرطوم.
وفي صباح الأحد ٢٠٢٣/٩/١٧م سافرنا إلى الخرطوم ،وقبيل مغادرة شندي تواصلت مع الأخوين مجدي محمد محمد أحمد وناصر النور عطية ووقتها كانا في أبي عشر في ود مدني حيث ذهبا إلى هناك مظنة أن الجنجويد لا يصلون إلى قلب الجزيرة. كان حوارنا عن وجهتنا ومستقرنا ومكان سكننا مع ابني محمد! انظروا لطيبة السودانيين نازح تحاصره كل أنواع المعاناة ويفكر ويجتهد مع نازح آخر عبر الهاتف بحثا عن حل عاجل وسريع كسرعة السيارة الصالون التي تمضي بنا نحو الخرطوم!وبعد حوار طويل استقر الرأي بأن ننزلا عند الأخ الزميل عبدالله إسماعيل الأصم في منطقة النوبة في الريف الشمالي لكرري فحمدت الله على مخرجات حوارنا وشعرت براحة نفسية كبيرة حيث إن الأخ الكريم عبدالله الأصم قريب من قلبي الأمر الذي سيزيل الكلفة بيننا في هذه الظروف الصعبة التي هي كلفة في نفسها!! وبعد أن تجاوزت سيارتنا كبري المتمة صرفت اهتمامي وفضولي هذه المرة في قراءة لافتات المناطق فاستوقفتني لافتة كتب عليها (حجر الطير) فحلقت حولها سريعا بحثا عن علاقة وتفسير لهذه الدلالة اللغوية، وبعد فشل محاولتي ، قلت في نفسي ربما كانت في قديم الزمان مكانا لتجمع الطيور ومع تزايد التعداد السكاني وتمدد العمران رحلت الطيور إلى فج ما كما رحل مطلق هذا الاسم ربما إلى الآخرة مستقرنا جميعا. عدت من رحلة خيال بحثية شاقة ودخلت في أخرى في منطقة تسمى( قوز نفيسة) تابعة لولاية الخرطوم وغيرها من المناطق التي خرجت عن النظام اللغوي الذي انتظم أغلب أسماء الريف الشمالي لكرري حيث اختارت (الآبية) ميزة لأسمائها، ونقصد بالآبية بأن نهاية الكلمة تنتهي بحرف (الألف والباء) فمن الشمال تجد الكوداب والشهيناب ،والدشيناب والسروراب والنوفلاب والحريزاب وغيرها من القرى والمناطق التي ترتبط باللفظ والدلالة اللغوية معا ، وتمثل السروراب حاضرة لهذا الريف فمنها خرج الشاعر محمد سعيد العبادي والبروفسور الحبر يوسف نورالدائم والشاعر سيف الدين الدسوقي -رحمهم الله جميعا- والكثير من رجال الفكر والأدب والفن، وعلماء في مجالات المعرفة المختلفة.
توقفت بنا السيارة في نقطة تفتيش بجوار مستشفى السروراب ووقتها كانت الإجراءات الأمنية مشددة بصورة تدخل فيك الأمان والخوف في آن واحد، فالذي في قلبه جنجويدية ستأتيه الحمى أم برد توا، جراء النظرات العسكرية الأمنية الفاحصة التي تكاد تخترق الصدور.
وفي الوقت الذي انشغل فيه الركاب بتلك الإجراءات كنت مهموما بمكان منزل الأصم فقد انتهى حوارنا مع إخوتي في مدني دون أن نأخذ منهم وصف البيت الأمر الذي أتاح فرصة ذهبية لصاحب ركشة صغير يصطاد مني خمشة نقود مانعة تساوي مشوار شندي وربما أكثر وقتئذ، وغلطتي لم أتفق معه على المشوار الذي لا أعرف مكانه بالضبط، ولكن شهرة الأصم في تلك الديار قادتني إلى منزله بسهولة كبيرة جدا -وهكذا المؤمن الحق كالغيث حيثما وقع نفع. توقفت بنا الركشة أمام منزل الأخ عبدالله إسماعيل الأصم، ثم سألت صاحبي عن قيمة المشوار فقال لي مبلغا صدمني وبعد تدخل الأصم في الحوار الممزوج بالجدل ناولته سبعة ألف جنيه كاملة غير منقوصة على مضض واكتشفت بعد لحظات بأن المنزل على مرمى حجر من الزلط بل تستطيع أن ترى باب الحوش من طريق المواصلات ولكننا ابتعدنا عنه كثيرا لعدم معرفة المكان.
في المقال القادم نحكي عن أول مقابلة لي مع والي الخرطوم الأستاذ أحمد عثمان حمزة بعد أحداث ١٥ابريل ٢٠٢٣م من داخل مقر الحكومة في كلية الآداب التابعة لجامعة كرري للتفاكر حول كيفية عودة البث الاذاعي والتلفزيوني في ظل تلك الظروف الاستثنائية.