مقالات

إبراهيم شقلاوي يكتب:- الدعم السريع : صناعة الفوضي ومأزق الاقليم..!

وجه الحقيقة

إبراهيم شقلاوي يكتب:-

الدعم السريع : صناعة الفوضي ومأزق الاقليم..!

وصلني عبر البريد الخاص بـوجه الحقيقة ، تقرير بالغ الأهمية من مركز السودان لدراسات مكافحة الإرهاب، أحد أهم الكيانات البحثية الوطنية التي برزت خلال السنوات الأخيرة بدوره في تعزيز السلم الأهلي، واحتواء النزاعات، ومكافحة التهديدات الإرهابية.

التقرير الصادر في 25 أغسطس 2025 تمت ترجمته وتحليله نقلا عن كاتب امريكي من اصول سودانية مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية مع اضافات استقصائية قام بها المركز، يقدم تحليلًا دقيقًا لدور مليشيا الدعم السريع في زعزعة استقرار السودان والمنطقة، مع تسليط الضوء على دعم خارجي مشبوه ، وحرب بالوكالة تتخذ من السودان مسرحًا مفتوحًا لصراعات القوى الإقليمية والدولية.

التقرير بدأ بالحديث عن السياق الاستراتيجي للنزاع السوداني الذي يمثل السودان فيه نقطة ارتكاز جغرافية فريدة في القارة الإفريقية؛ فهو يتوسط خطوط تماس بين الشمال ، والساحل، والقرن الإفريقي، والبحر الأحمر، ما يجعله موضع اهتمام بالغ لدى قوى محلية ودولية، وكذلك الجماعات المتطرفة العابرة للحدود. كما تُمثل السيطرة على السودان رافعة استراتيجية لوجستية وعسكرية، تسهّل نقل الأسلحة، وإدارة العمليات، والوصول إلى الممرات البحرية الحيوية، في لحظة تتزايد فيها الحاجة لحماية سلاسل الإمداد، خاصة في البحر الأحمر.

ينطلق التقرير الذي جاء تحت عنوان “الحرب في السودان وتأثيرها علي نمو النشاط الإرهابي في المنطقة ” من تشخيص لحالة السودان الراهنة، حيث يقدّم مليشيا الدعم السريع بوصفها العامل الأكثر زعزعة للاستقرار، بما تملكه من ترسانة عسكرية وشبكات تهريب وقدرة على الانتشار، كذلك بروزها كفاعل يتخطى الدولة، ويعيد هندسة التوازنات المحلية والإقليمية لصالح مشروع عابر للحدود، مدعوم من أطراف خارجية لها مصالح متقاطعة في السودان و المنطقة.

يُشير التقرير أيضاً إلى أن الدعم السريع بات يُسيطر فعليًا على مناطق ممتدة في غرب السودان ، متوغلاً في اقتصاد الظل، ومتصدّرًا لعمليات تهريب الذهب والبشر والسلاح، وهي عمليات تغذيها فوضى الحدود، وانهيار الرقابة الحكومية، وغياب التنسيق الإقليمي الجاد. وفي هذا الفراغ تتكاثر المؤشرات على تدخل خارجي مباشر: من توريد معدات عسكرية، إلى مشاركة مرتزقة أجانب، يُشار إليهم بوضوح عبر تقارير رسمية.

لكن الأخطر، وفق التقرير، لا يكمُن في السلاح وحده، بل في البيئة التي تتشكّل تحت هذا النزاع. فتدفق أكثر من ثمانية ملايين قطعة سلاح، وإطلاق سراح المئات من السجناء المتطرفين، وتراجع أجهزة الاستخبارات الإقليمية، كلها عوامل أعادت فتح الباب أمام تنظيمات محتملة مثل القاعدة وداعش لإعادة التموضع، وبناء خلايا، والتخطيط لحركة عابرة للحدود. هنا السودان لا يظهر كمجرد بؤرة نزاع، بل كنقطة عبور محتملة، تهدد أمن البحر الأحمر، وتربك المشهد في القرن الإفريقي، وتمتد ارتداداته نحو ليبيا وتشاد وإثيوبيا، بل وسواحل أوروبا.

في هذا السياق، لا يبدو الحديث عن «حرب وكالة» مجرد وصف تحليلي، بل هو توصيف دقيق لواقع سياسي تتداخل فيه المصالح الدولية، من خلال مرتزقة أجانب – من كولومبيا وغيرها – يقاتلون إلى جانب الدعم السريع، إضافة إلى تقارير مستمرة عن دعم عسكري ومالي من أطراف إقليمية، وهكذا يتحول الصراع إلى ساحة نزاع جيوسياسي، تتصارع فيها القوى الإقليمية والدولية على النفوذ، بينما يدفع الشعب السوداني، والدول المجاورة، ثمنا متصاعدا للفوضى.

واحدة من أخطر الدلالات التي يبرزها التقرير هي قابلية الأزمة السودانية للتمدد الجغرافي، بما يهدد أمن البحر الأحمر، وحركة الملاحة الدولية، وناقلات النفط. لا تقل خطورةً عن ذلك الهجرة غير النظامية، التي باتت تُغذّى من داخل معسكرات النزوح، وتُستثمر من قبل جماعات مسلحة وشبكات تهريب منظمة، تُعيد تدوير الفوضى في مسارات جديدة نحو الساحل الليبي، أو القرن الإفريقي، أو حتى أوروبا.

وإذا كانت التداعيات خطيرة، فإن رد الفعل الدولي والإقليمي لا يزال حتى الآن دون مستوى التحدي. فغياب التنسيق الجاد، وتعدد الحسابات، وتدخل المصالح، يعقّد أي استجابة شاملة. ولهذا يطرح التقرير حزمة من التوصيات العملية، كمدخلات ضرورية لسياسات أكثر وعيًا بخطورة الوضع. تشمل هذه التوصيات: تعزيز أمن الحدود، وتكثيف التعاون الاستخباراتي، وتطوير استراتيجيات محلية لمحاصرة التهريب والتجنيد، إلى جانب إعادة بناء الثقة المجتمعية في مناطق النزاع، عبر برامج إنمائية وإنسانية، تسحب البساط من تحت أقدام الجماعات المتطرفة.

التقرير يُوصي بضرورة تفعيل التعاون الإقليمي الاستخباراتي، خصوصًا في مراقبة الحدود ومنع تسلل المقاتلين. كما يدعو إلى إطلاق برامج إنمائية متكاملة في مناطق النزاع، كجزء من استراتيجية أمن وقائي، تُمكّن المجتمعات المحلية من استعادة زمام المبادرة، وتُضعف قدرة الجماعات المتطرفة على التجنيد والتمدد. يُشدد كذلك على وجوب إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، من خلال دعم الأجهزة الأمنية الوطنية، وتحييد اي سلاح خارج الدولة تدريجيًا ، ضمن مشروع نزع السلاح وإعادة الإدماج.

ويُلفت التقرير إلى أن أي مسار نحو الحل يجب أن يتضمن ضغطًا دوليًا حقيقيًا على الجهات المتورطة في تمويل النزاع، مع مراجعة شاملة لسياسات التعامل مع الملف السوداني، التي ظلت لسنوات أسيرة منطق “احتواء الانفجار” بدل “منع الانفجار”. فلا يمكن مكافحة الإرهاب، أو وقف التهريب، أو تأمين الملاحة، دون حسم الفوضى التي تسمح بتوالد هذه المظاهر.

الأهم في مواجهة الأزمة السودانية بحسب التقرير أن الحل لا يكمن في الأمن وحده. فغياب المشروع السياسي وضعف مؤسسات الدولة يطيلان عمر الصراع ويمنحان الميليشيا فرصة للبقاء. السودان اليوم بحاجة إلى مبادرة وطنية شاملة تربط الأمن بالتنمية، وتدمج الداخل بالمحيط الإقليمي، وتُحسن توظيف الدعم الدولي الصديق. فالأزمة أعمق من مجرد خلل أمني؛ إنها أزمة غياب مشروع وطني جامع، يعترف بتعدد الهويات، ويطرح بديلاً مدنياً لإدارة الدولة. لذا لا بد من رؤية سياسية متكاملة، تبدأ من الداخل، وتُفعل الدور الجاد الإقليمي والدولي لصالح استقرار السودان.

ما يحدث في السودان محطة مفصلية تُعيد رسم ملامح المشهد الوطني والإقليمي. والمقال، استنادًا إلى قراءة تحليلية لتقرير مركز السودان ومن زاوية #وجه_الحقيقة، لا يدّعي امتلاك الإجابات، بل يسعى إلى توسيع الفهم وتحفيز النقاش. فالتحديات التي تواجهها بلادنا اليوم لم تعد مؤجلة، بل باتت حاضرة بثقلها الكامل. والتعامل معها بتجاهل أو إنكار لن يخفف حدتها، بل قد يعقّد سُبل الحل. ومع ذلك، لا تزال هناك فرصة لاستعادة الثقة، إذا ما توفرت الإرادة السياسية، وقدمت مقاربة مسؤولة من الداخل الوطني، تليق بتاريخ السودان وشعبه .
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 26 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى