“حل القيد يا مولاي: مناجاة الحجيج بين مدائح السودان ونداء سيدنا إبراهيم” بقلم: د. علي حجر

“حل القيد يا مولاي: مناجاة الحجيج بين مدائح السودان ونداء سيدنا إبراهيم”
بقلم: د. علي حجر
السفر بينا على أم نخيل، وربنا يحل القيد
السفر بينا على أم نخيل
القيام بينا على أم نخيل
مولانا يا حي يا فضيل
يا نافي لي الشبه ومثيل
حل القيد أقدم عديل
أمشي وأزور حرمو الجميل
مصباحنا يا نور السعاد
من سوحو ما بصح القعاد
فاتوني، فاتوني السعاد
إيه البطا، يا خلي عاد..
في هذه الأيام المباركة من شهر ذو القعدة، تتجه وفود بيت الله الحرام إلى مكة المكرمة، وإلى المدينة المنورة – أم نخيل كما يحب أهل السودان أن يسموها، تيمّناً بجمال نخيلها وبهاء مقامها.
“فاتونا فاتونا السعاد، إيه البطا يا زميلي عاد”، هكذا يعبّر العاشق عن شوقه، ويترنم السودانيون بأعذب المدائح في أعظم رحلة عرفها التاريخ البشري: رحلة الحج.
يا سلام على تلك الأيام العظيمة التي يقضيها الإنسان في رحاب ربه، في الأراضي المقدسة، فيضيع فيها الزمان وتتلاشى الدنيا، ليبقى القلب معلقًا هناك، حيث السكينة والرحمة والنفحات الإلهية.
الكل يتمنى أن يكون من وفد بيت الله، من زوار الحبيب المصطفى، لكن المنادي ما نادى، والقيد ما انحل.
حتى وإن كنت غنيًا، فالأمر بيد الله، والأحكام بيد الله، وقيود القدرة الإلهية هي التي تحكم الجميع.
“ربنا يفك ساجورنا” – عقيدة راسخة في وجدان السودانيين، حتى عند الأمي منهم. فالأمر لله وحده، لا يتم الحج إلا بإذنه، حين يناديك منادي الحج، حينها فقط تكون ضمن وفد الرحمن. إنه اصطفاء رباني عجيب لموقف عرفات المهيب.
جل شأنك يا الله!
إنها قصص تفوق الخيال البشري، قصص لأناس يسّر الله لهم أمر الحج رغم ضيق اليد، فحجّوا وأتموا الركن الخامس كأعظم ما يكون، بينما آخرون يمتلكون المال، لكن لم يكونوا من ضيوف الرحمن.
الكل يشتاق، يترقب، يرفع الأكف، يرجو أن يناديه المنادي، وأن يفك قيده.
اللهم فك قيودنا يا الله.
ما بخلي لي السفر إن حييت
إن مت، أو لعيالي جيت.
يعشق السودانيون الأراضي المقدسة، ومن مات وهو في طريقه إلى الحج فهو “بخيت”، مات في أيام مباركة، في مكان مبارك. يا سلام على هذا الشعب الطيب، الذي يحب الطيب.
ربنا يجمعنا في عرفات كلنا دون فرز.
ذكر الإمام القرطبي – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى:
﴿ وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾
أنه لما فرغ إبراهيم – عليه السلام – من بناء البيت، وقيل له: أذِّن في الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن، وعليّ البلاغ.
فصعد جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليجزيكم الجنة ويجيركم من النار.
فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء:
“لبيك اللهم لبيك!”
فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة: إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين.
فالأمر رباني، لا سلطان للبشر عليه، ومن استجاب لنداء إبراهيم عليه السلام، كان لا بد أن يكون ضمن وفود الرحمن.
في السودان، كثيرًا ما نسمع تعبير “القيد”، خاصة في المدائح.
الدكتور عبد المطلب الفحل، في كتابه “الصلاة على الرسول الماحي في مدائح حاج الماحي”، يقول إن “القيد” هو قيد معنوي غير مرئي، تعارف عليه المسلمون في السودان، فالحج لا يتم إلا إذا فك الله القيد، ونادى العبد للحج.
المدّاحون في السودان مثل حاج الماحي وحاج العاقب وغيرهم، استخدموا رمزية الحبس والقيد في أشعارهم:
يا مولاي سهل لي بحِلْ
قيدي لي سوحا مو محل.
الشيخ القريشي يقول:
الكريم حل قيدي ينحل
أروح للروضة وأم قُلة.
وحاج الماحي يقول:
يا حلال سجوني وقيدي يا هوان
قبل الموت أسافر وألحق الربّان.
(والربّان هم وفود الحجاج الذين يعبرون البحر الأحمر من سواكن).
ويقول أيضًا في مدحة مشهورة:
عيب شبابي الاتحبس
ما حج وزار سيد أنس.
وقال آخر
عيب شبابي الما رحل
والله لي ذاك الحمل.
الشيخ ود سعد قال:
عيب شبابي الما ظعن
ما حج وزار المؤتمن.
الشيخ العبيد ود عين الشمس قال:
الرجال في مطار الحج فاتوا خلوني
يا كريم راجيك أبقى في عوني
العبد مسكين تحكمه الأقدار
والإله يحكم كيفما يختار.
فيا الله، حل القيد، وارفع الحجب، ونادنا للحج، واحشرنا في زمرة الحجيج، وأدخلنا في رحمتك.
اللهم لا تحرمنا من حج بيتك وزيارة نبيك، وفك قيودنا كما فككتها لمن سبقنا.. آمين.